الوقف في الإسلام صورة مشرقة لإبداعات العقل المسلم
بقلم : إبراهيم نويري
انفردت حضارتنا الإسلامية البديعة بميزات وخصائص عديدة، هي أقرب الخصائص إلى روح الإنسان وفطرته وكينونته، كمخلوق متميّز متفرّد... فالمنحى " الخيري / الإنساني" يكاد يكون ميزة عامة تصطبغ بها منظومة هذه الخصائص من ناحيتي الأداء والمقاصد على حدّ سواء.
وما نظام الوقف الإسلامي إلا مَعلماً من تلك المعالم الإنسانية الرائدة، التي تمـيزت بها حضارتنا في التاريخ.
وعلى الرغم من أن أوروبا – كما نجد في تاريخ الحضارات – قد تأثرت بمفهوم الوقف الإسلامي وسماته النبيلـة، وذلك عن طريق نقاط التواصل والتماس معها، من خلال جامعات الأندلس، ومؤلفات علماء العرب والمسلمين الموسوعية، التي تمثل بواكير دوائر المعارف في التاريخ العلمي للإنسانية، حيث وجد عندها – كرجع صدى للوقف الإسلامي – ما يُعرف بنظام " الترست Trust "، وهو نظام شبيه بالوقف الإسلامي إلى أبعد الحدود، إلا أن نظام الوقف الإسلامي بخلفيته ومنطلقاته وغاياته، يظل منهجاً فريداً، وأسلوباً إنسانياً وخيرياً استثنائياً، تتميز به الحضارة الإسلامية والتشريع الإسلامي، قال الإمام الشافعي رحمه الله وهو يشير إلى هذه الميزة الإسلامية: " لم يحبس أهل الجاهلية داراً ولا أرضًا فيما علمت ".
تعريفات فقهية ضرورية:
من أسماء الوقف: التسبيل والتحبيس، وهو عند أبي حنيفة: " حبس العين على حكم ملك الواقف، والتصدّق بالمنفعة على جهة الخير ".
وهو عند الشافعية والحنابلة: " حبس مال يمكن الانتفاع به، مع بقاء عينه، بقطع التصرف في رقبته من الواقف وغيره، على مصرف مباح، أو بصرف ريعه على جهة بر وخير تقرباً إلى الله، وعليه يخرج المال عن ملك الواقف، ويصير حبيساً على حكم ملك الله تعالى ".
وهو عند المالكية: " جعل المالك منفعة مملوكة، ولو كان مملوكاً بأجرة، أو جعل غلته كدراهم، لمستحق بصيغة، مدة ما يراه المحبِّس، أي أن المالك يحبس العين عن أي تصرف تمليكي، ويتبرع بريعها لجهة خيرية، تبرعاً لازماً، مع بقاء العين على ملك الواقف، مدة معينة من الزمان فلا يشترط فيه التأبيد [1]".
ومثال المملوك بأجرة: أن يستأجر داراً مملوكة، أو أرضاً مدة معلومة، ثم يقف منفعتها لمستحق آخر غيره في تلك المدة، وبه يكون المراد من المملوك، إما ملك الذات أو ملك المنفعة.
يقول الفقيه الدكتور وهبة الزحيلي: " فالوقف عند المالكية لا يقطع حق الملكية في العين الموقوفة، وإنما يقطع حق التصرف فيها، وقد استدلوا على بقاء الملك في العين الموقوفة، بحديث عمر رضي الله عنه، حيث قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن شئت حبّّستَ أصلها وتصدّقت بها "، ففيه إشارة بالتصدّق بالغلة، مع بقاء ملكية الموقوف على ذمة الواقف، ومنع أي تصرف تمليكي فيه للغير، بدليل فهم عمر: " على ألا تباع ولا توهب ولا تورّث .. وهذا يشبه ملك المحجور عليه لسفه أي: تبذير وسوء تدبير، فإن ملكه باق في ماله، ولكنه ممنوع من بيعه و هِبَتِهِ، وهذا الرأي أدق دليلاً، وإن كان رأي الشافعية والحنابلة هو الأشهر عند الناس "[2].
والوقف في عرف الفقهاء قسمان: خيري، وأهلي (ذُرّي). وإن كانوا قد اختلفوا في بعض تفاصيل النـوع الثاني، فإنهم اتفقوا على جواز النوع الأول، الذي أقره النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أن عمر أصاب أرضاً بخيبر، تسمى ( ثمغ )، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال يا رسول الله: أصبت أرضاً بخيبر، لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فكيف تأمرني به؟ فقال له: إن شئت حبّستَ أصلها وتصدقتَ بها. فتصدق بها عمر رضي الله عنه – على أن لا يباع أصلها ولا يورّث – للفقراء والقربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضعيف... كما اتفقوا أيضاً على أنه لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقاً غير متأثل مالاً.
ويستدل البعض كذلك في إثبات مشروعية الوقف بقوله سبحانه عز وجل:
( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران /92
والواقع أن عمل الخير والسخاء والبذل في سبيل الله كان متأصلاً في الرعيل الأول من المسلمين وأجيال السلف الصالح. فقد روى الإمام أحمد – بإسناده – عن أبي إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: أنه سمع أنس بن مالك يقول: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه " بئر حاء "[3]، و كانت هذه البئر مستقبلة المسجد. وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يدخلها ويشرب منها، لأن ماءها كان رائقـاً طيباً. قال أنس: فلما نزل قوله تعالى: (( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )).. قال أبو طلحة: يا رسول الله. إن الله تعالى يقول:" لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " وإن أحب أموالي إلي (بئر حــاء)، وإنها صدقة أرجو بها برها وذخرها عند الله تعالى. فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( بخٍ بخٍ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وقد سمعت، وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين)).
فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمومته ( أخرجه البخاري و مسلم).
ونحن هنا لا نريد التفصيل في آراء الفقهاء كثيراً ، وبسط وجهات نظرهم المختلفة والمتنوعة إزاء هذا الموضوع، بقدر ما يهمنا إجلاء الخصائص النفعية، والسمات الخيرية، في نظام الوقف الإسلامي، ومدى آثـار وانعكاسات هذه الخصائص على مطلب التكافل الاجتماعي، الذي دعا له الإسلام وحثَّ عليه بشدة وتركيز ظاهريْن.
يقول المفكر المسلم الراحل فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: " ولقد عرف المسلمون، أن الإسلام دعا إلى الوقف الخيري، من حيث كان دين فطرة، ثم من حيث دعا دعوة ملحة إلى البر بالناس، وإلى الصدقة الجارية في نصوص كثيرة، منها قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ." فمضوا بهدى الفطرة وآداب الدين يوقفون أموالهم على المستشفيات، وعلى المساجد، وعلى التكايا والأسبلة، وعلى دفن الموتى، وختان الأطفال، وعلى إعانة الفتيات على الزواج، وعلى التعليم والسياحة في الأرض، والرحلة لأداء فريضة الحج، وعلى كفالة الفقير واليتيم والمحروم، وعلى كل غرض إنساني شريف، بل لقد أشركوا في برّهم الحيوان مع الإنسان؛ و لقد تأخذ أحدنا الدهشة وهو يستعرض حجج الواقفين ( أهل الوقف ) ليرى القوم في نبل نفوسهم ويقظة ضمائرهم ، وعلوّ إنسانيتهم، بل في سلطان دينهم عليهم، وهم يتخيّرون الأغراض الشريفة التي يوقفون لها أموالهم، و يرجون أن تنفق في سبيل تحقيقها هذه الأموال "[4].
صور مشرقة من الوقف الخيري :
إن العمل الخيري في الإسلام ليس فقط تعبيراً فردياً عن صحو في الضمير، أو يقظة في العقل والنفس، وإنما هو – إلى جانب ذلك - روح اجتماعية سارية في أوصال الجماعة المؤمنة، وهو كذلك من لبـنات البناء الاجتماعي الفاضل، ومن ثم فقد أوجدت حضارتنا الأطر المناسبة للعمل الخيري، وذلك لتحقيق هدفين رئيسين :
الأول: كي يجد أهل الخير المجالات الملائمة لنفقاتهم وعطاءاتهم الخيرية، ويطمئنوا على أن بذلهم إنما هو ضمن السبيل المشروع.
والثاني: تغطية حاجة المـجالات المستحقة للنفقات، كترجمة عملـية حية لروح التضامن والتكافل، التي ينبغي أن تسود المجتمع الإسلامي في كلّ زمان ومكان .
ويمكن ملاحظة هذه السمات الإنسانية الرفيعة، و هذه الصفات الخيرية النبيلة، من خلال
الأطر الوقفية العجيبة التالية :
1ـ وقف الأعراس: وهو وقف لإعارة الحلي والزينة في الأعراس والأفراح، يستعير الفقراء منه ما يلزمهم في أفراحهم وأعراسهم، ثم يعيدون ما استعاروه إلى مكانه. وبهذا يتيسر للفقير أن يظهر يوم عرسه بحلة لائقة، ولعروسه أن تُجلّى في حلية رائقة، حتى يكتمل الشعور بالفرح، وتنجبر الخواطر المكسورة.
2ـ وقف مواساة المريض: وهو وقف فيه وظيفة من جملة وظائف المعالجة في المستشفيات، وقوامه أو أساسه، تكليف اثنين من الممرضين أن يقفا قريباً من المريض، بحيث يسمعهما ولا يراهما، فيقول أحدهما لصاحبه: ماذا قال الطبيب عن هذا المريض؟ فيرد عليه الآخر: إن الطبيب يقول عنه: لا بأس به وبحالته ، فهو مرجو البرء، بإذن الله، ولا يوجد في علته ما يشغل البال... وربما نهض المريض فعلاً – بفضل هذا الأسلوب المعنوي – من فراش مرضه بعد يومين أو أكثر.
3ـ وقف مؤنس المرضى والغرباء: وهو وقف يُنفق منه على عدة مؤذنين، من كلّ رخيم الصوت، حسن الأداء، فيرتلون القصائد الدينية طول الليل، بحيث يرتّل كلّ واحد منهم ساعة حتى مطلع الفجر، بهدف إيناس المرضى والغرباء. وإدخال السرور على النفوس، والتخفيف من الضغط النفسي، على الغرباء خاصة، وغيرهم ممن يحتاجون إلى هذا اللون من الرعاية الاجتماعية التكافلية.
4ـ وقف الزبادي: هذا الوقف تُشترى منه ِصحافُ وآنيةُ الخزف الصيني ونحوه ، فكلّ خادم كُسِّرت آنيته لسبب أو لآخر، وتعرض لغضب مخدومه، أو توقع ذلك منه، له أن يذهب إلى إدارة هذا الوقف، فيترك الإناء المكسور ويأخذ إناء صحيحاً بدلاً منه، فيسعفه هذا الوقف من تلافي غضب مخدومه عليه، وحفظ ماء وجهه وكرامته .
التكافل واجب و ضرورة :
يأبى الإسلام بقوة أن يُترك المحتاجون وذوو الفاقة والعوز، يواجهون مصيرهم لوحدهم، دونما تدخل من المجتمع والدولة وأهل اليسر، ولذلك فقد أوجب مبدأ التكافل الاجتماعي، وجعل منه مطلباً ينبغي القيام به، وضرورة أدائه على أحسن وجه لازم، وهو مطلب في ذمة المجتمع والدولة على حدّ سواء.
يقول الفقيه ابن حزم الظاهري في المحلّى: " وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك؛ فيقام لهم بما يأكلون من القوت، الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنّهم من المطر والشمس وعيون المارة.. "[5].
ومن إنسانية الإسلام البالغة، أنه لم يفرق في الإفادة من خير الأوقاف بين مسلم وكافر، ذمياً كان أو عابر سبيل.. فقد جاء في الأثر أن أم المؤمنين صفية رضي الله عنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان لها وقف وَقَفَتهُ على أخ لها يهودي.
وثمة أمر آخر وهو أن الإسلام، حين حث على مبدأ التكافل الاجتماعي، والعمل الخيري والإنساني والإغاثي، فإنه بيّن من جهة أخرى الموارد الأصلية والأساسية لتلك الحاجات والمطالب، وذلك مثل الزكاة والوقف والغنائم والركاز ... الخ.
ومع أهمية كل الموارد المذكورة، فإن الوقف يظل بمواصفاته وخصائصه، مورداً مميزاً نظراً لما ينطوي عليه من أساليب غاية في الابداع ، وللحرية المتاحة في مصارف الوقف، إذ إن أي مطلب شريف قد يطاله خير الوقف ونفحاته وبركاته .. فهل تحيي المؤسسات الوقفية القائمة الآن ما تلاشى مع الزمن من تقاليد إجتماعية وإنسانية نبيلة كانت ملاذاً وبلسماً للكثير من المحرجين في هذه الحياة ؟ نأمل أن يكون ذلك بأساليب جديدة أكثر إبداعاً وذوقاً وإنسانية .